كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد علمت أن الثني هو المسن. قال ابن الأثير في النهاية في الجذع: هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز: ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة ومن الضأن: ما تمت له سنة، وقيل: أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير اهـ منه. وقال ابن الأثير في النهاية أيضًا: الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة، ومن البقر كذلك، ومن الإبل: في السادسة والذكر ثني، وعلى مذهب أحمد بن حنبل: ما دخل من المعز في الثانية، ومن البقر في الثالثة.
وقال ابن الأثير في النهاية في المسنة، قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن، إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة.
وقال الجوهري في صحاحه: الجذع، قبل الثني والجمع جذعان وجذاع، والأنثى: جذعة، والجمع: جذعات تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة: أجذع والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنب ولا تسقط، وقد قيل: في ولد النعجة: إنه جذع في ستة أشهر، أو تسعة أشهر، وذلك جائز في الأضحية انتهى منه. وفي القاموس: والثنية: الناقة الطاعنة في السادسة، والبعير ثني والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة. اهـ منه.
وقد علمت مما مر: أن حديث مسلم الثابت فيه دل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن، فمن ضحى بمسنة، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها: فضحيته مجزئة إجماعًا.
واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك، وهذه مذاهبهم وأدلتها.
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه: إلى أن المجزئ في الضحية: جذع الضأن، وثني المعز والبقر، والإبل. وجذع الضأن عندهم: هو ما أكمل سنة على المشهور، وثني المعز عندهم: هو ما أكمل سنة، ودخل في الثانية دخولًا بينًا، فالدخول في السنة الثانية، دخولا بينًا هو الفرق عندهم بين جذع الضأن، وثني المعز.
ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية: أن جذع الضأن عندهم، لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم، وأن الثني ثبت إجزاؤه مطلقًا، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولًا بينًا من تحقيق المناط، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين والأنثى والذكر سواء عندهم. والثني عندهم من الإبل: ابن خمس سنين، والذكر والأنثى سواء.
ومعلوم أن الذكورة، والأنوثة في الضحايا والهدايا، وصفان طرديان، لا أثر لواحد منهما في الحكم فهما سواء. وقال بعض المالكية: إن الثني من البقر: ابن أربع سنين. والظاهر: أنه غير مخالف للقول الأول، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة.
وقال ابن حبيب من المالكية: والثني من الإبل ابن ست سنين، والظاهر أيضًا أنه غير مخالف للقول الأول، لأن المراد به ابن خمسن ودخل في السادسة، فإن قيل... سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم: لا فرق بينها، وبين الجذع الذكر، لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان، لا أثر لهما في الحكم. ولَكِن ظاهر الحديث، يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث، لا يذبحها، إلا من تعسرت عليه المسنة، التي هي التثنية، لأن لفظ الحديث المتقدم «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن».
فالجواب: أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن: لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة، وظاهره: أن الجذع الذكر من الضأن: لا يجزئ سواء عسر وجود المسنة، أو لم يعسر، وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين، إلا ما روي عن ابن عمر، والزهري: من أن الجذع الذكر من الضأن لا يجزئ مطلقًا لظاهر هذا الحديث.
قال النووي: في شرحه لحديث مسلم: هذا ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية: من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدرين وغيره من أصحابنا أنه قال: يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن، وحكي هذا عن عطاء، وأما الجذع من الضأن: فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة: أنه يجزئ، سواء وجد غيره أو لا، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا: تجزئ، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث، قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب، والأفضل وتقديره: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري: يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن: لا تجزئ إلا إذا تعسر وجود المسنة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «لا تذبحوا إلا مسنة» نهي صريح عن ذبح غير المسنة، التي هي الثنية. والنهي: يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول، إلا إذا وجد صارف عنه، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن: لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة كما ترى، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، ومناقشة أدلتهم، وأما مذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة: فهو أن الجذع لا يجزئ إلا من الضأن خاصة، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء، وأما غير الضأن: فلا يجزئ عنده منه إلا الثنية، أو الثني. وقد قدمنا كلام أهل العلم، واللغة في سن الجذع، والثني والجذعة والثنية والوجه الذي حكاه الرافعي: أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط كما صرح به النووي. وأما مذهب أبي حنيفة: فهو كمذهب الشافعي، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر.
وقال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه: والجذع من الضأن: ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء، وذكر الزعفراني: أنه ابن سبعة أشهر. والثني من الضأن، والمعز ابن سنة، ومن البقر: ابن سنتين، ومن الإبل: ابن خمس سنين، وفي القرب: الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة، ومن البقر والشاة في السنة الثانية، ومن الخيل في الرابعة، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة، ومن الضأن لثمانية أشهر. اهـ منه.
والأصح: هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء، وأهل اللغة، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة، ولا يجوز من غير الضأن: إلا الثني، والجذع من الضأن عندهم: ما له ستة أشهر، ودخل في السابع، وثني المعز عندهم: إذا تمت له سنة، ودخل في الثانية، وثني البقر عندهم: إذا تمت له سنتان، ودخل في الثالثة، وثني الإبل عندهم: إذا تمت له خمس سنين، ودخل في السادسة.
قاله ابن قدامة في المغني: وقال أيضًا قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني، ونرى أنه إنما سمي ثنيًّا، لأنه ألقى ثنيته. وأما البقةر فهي التي لها سنتان، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة» ومسنة البقر التي لها سنتان، وقال وكيع: الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر. انتهى كلام المغني. وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن، التي تجزئ ضحية من بهيمة الأنعام، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن، والثني من غيره مع بعض الاختلاف، الذي رأيت في سن الجذع والثني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي: هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم: أنه لا يجزئ في الأضحية: الجذع إلا من الضأن خاصة، ومن غير الضأن وهو المعز، والإبل والبقر: لا يجزئ إلا الثني. فما فوقه. والذكر والأنثى سواء في الهدايا، والأضاحي كما تقدم.
والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» أنه متعين بحمله على الاستحباب، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم: هي أحاديث أُخر جاءت من طرق عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن الجذع من الضأن يجزئ، وظاهرها، ولو كان المضحي قادرًا على المسنة، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في المنتقى، لأنه ذكرها في محل واحد، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم أو نعمت الأضحية: الجذع من الضأن» ومنها: ما روه الإمام أحمد وابن ماجه، عن أم بلال بنت هلال، عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجوز الجذع من الضأن ضحية» ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه، عن مجاشع بن سليم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية» ومنها: ما رواه النسائي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن»اهـ. بواسطة نقل المجد في المنتقى.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، فتصلح بمجموعها للاحتجاج، وتعتضد بأن عامة أهل العلم، على العمل بها، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري. وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم: على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ، وهو كذلك، وحديث البارء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة: «ضح بجذعة من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك» دليل: على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية. قال البخاري في صحيحه: باب قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: «ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك» حدثنا مسدد، حثدنا خالد بن عبد الله، حدثنا مطرف، عن عامر عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: ضى خال لي يقال له أبو بردة، قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم، فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنًا جذعة من المعز. قال: اذبحها ولا تصلح لغيرك» اهـ منه. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء «ولن تجزئ عن أحد بعدك» وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور «ولن تجزئ عن أحد بعدك» وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء «ضح بها ولا تصلح لغيرك» وفي لفظ له عنه «ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك».
والروايات بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح: بأنها لا تجزئ عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما: وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ. فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزئ عن أحد بعد أبي بردة.
فإن قيل: جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به أنت» وهذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهني المذكور رضي الله عنه قال: «قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا فأصابني جذع، فقلت: يا رسول الله أصابني جذع فقال: ضح به» اهـ منه. وروايات هذا الحديث الصحيح، عن عقبة بن عامر: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضحي بجذع المعز، لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع. وقال ابن الأثير في النهاية: والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى، وأتى عليه حول. وهذا حديث متفق عليه فيه الدلالة الصريحة: على جواز التضحية بجذع المعز، وذكر ابن حجر في الفتح: أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر، المذكور عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعقبة: «ولا رخصة فيها لأحد بعدك».
وقال ابن حجر: إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة: وإن حاول بعضهم تضعيفها.
فالجواب: أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم، ويزيده إشكالًا، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه صلى الله عليه وسلم لجماعة آخرين. قال ابن حجر في الفتح: فقد أخرج أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا جذعًا فقال: ضح به. فقلت: إنه جذع أفأضحي؟ قال: نعم ضح به فضحيت به» لفظ أحمد إلى أن قال: وفي الطبراني في الأوسط، من حديث ابن عباس «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعًا من المعز فأمره أن يضحي به» وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى، والحاكم من حديث أبي هريرة: أن رجلًا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال «ضح به فإن لله الخير» انتهى بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.
وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالًا، فاعلم: أن الحافظ في التفح تصدى لإزالة ذلك الإشكال، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك. وإنما قلت ذلك: لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير. انتهى محل الغرض منه بلفظه. ومقصوده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز «ولن تجزئ عن أحد بعدك» إلا لأبي بردة، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي، والذين لم يقل لهم، ولن تجزئ عن أحد بعدك، لا إشكال في مسألتهم، لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة. وقد تصدى لحله ابن حجر في الفتح أيضًا فقال في موضع: وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحا. اهـ. محل الغرض منه. وقال في موضع آخر: وإن تعذر الجمع الذي قدمته، فحديث أبي بردة أصح مخرجًا. اهـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما الجمع الذي ذكره ابن حجر، فالظاهر عندي: أنه لا يصح.
وقوله: لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه رحمه الله، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «ولن تجزئ عن أحد بعدك» صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره، لأن لفظة «لن» تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله «عن أحد بعدك» نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى.
والصواب: الترجيح بين الحديثين، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة «ولن تجزئ عن أحد بعدك» فيه أصح سندًا من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة، فيجب تقديم حديث أبي بردة، على حديث عقبة، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير والله تعالى أعلم.
فإن قيل: ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة: لن: لا تدل على تأبيد النفي. قال ابن هشام في المغني في الكلام على لن: ولا تفيد توكيد النفي، خلافًا للزمخشري في كشافه، ولا تأبيده خلافًا له في أنموذجه، وكلاهما دعوى بلا دليل، قيل: ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها باليوم في {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيًّا} [مريم: 26] ولكان ذكر الأبد في {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] تكرارًا والأصل عدمه اه محل الغرض منه.
فالجواب: أن قول الزمخشري بإفادة لن: التأبيد يجب رده، لأنه يقصده به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعمًا أن قوله لموسى: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] تفيد فيه لفظة: لن تأبيد النفي، فلا يرى الله عنده أبدًا لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها. وقد بينا مرارًا أن رؤية الله تعالى بالأبصار: جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة. ولو كانت ممنوعة عقلًا في الدنيا لما قال نبي الله موسى {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى، وأنها ممنوعة شرعًا في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن: التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص.